د . عبد الفتاح البنا بعد زيارة شارع المعز :

تكاليف الترميم ..مبالغ فيها

تحقيق وتصوير أسامة فاروق

في نهاية الجولة سأل د.البنا:هل ما حدث يستحق المبالغ التي أعلن عنها؟
وأجاب بأن ما حدث في كل المباني الأثرية التي تم ترميمها في مشروع القاهرة التاريخية لا يستحق ربع المبالغ التي تم الإعلان عنها، وقال:لن نجد هذه الملايين منعكسة علي المنطقة ولا يوجد أي تغيير يتناسب مع الرقم المعلن عنه، وبغض النظر عن عمليات الرشوة التي يجري التحقيق فيها الآن، فيمكن القول بمنتهي الصدق أن وزارة الثقافة طٌمعت الناس لأنها أعلنت من البداية عن أرقام مبالغ فيها جدا، وبالتالي فكل من عمل في هذا المشروع كان تركيزه الأكبر علي ما يمكن تحصيله لا ما يمكن تقديمه لتلك الآثار، حتي المكاتب الاستشارية حين تقدمت للعمل في هذا المشروع قدمت مبالغ خرافية بالنسبة للأعمال التي من المفترض أن ينجزوها.

أضاف:ولو أردنا الآن تقييم ما تم في المعز لدين الله، فسنجد أنه وقع الاختيار علي مبان محافظة علي وجودها وهيئتها الأساسية بمعني أن المستهدف في خطة وزارة الثقافة كان العمل علي السليم ، وصٌدروا لنا أنهم سيعملون علي كل آثار المنطقة، والآن لن نجد اختلافا كبيرا بين حالة الآثار قبل وبعد الترميم، فيما عدا بعض التغييرات الجمالية أضرت الأثر أكثر مما أفادته بمعني أنها غيرت من شكل المنطقة الأثرية التاريخية، والأهم في فلسفلة الترميم أن نعلن لمن يعيش هذا العصر كيف بني هذا الأثر والحالة التي كان عليها، وما حدث يؤكد أننا أمام مشروع يعلن من البداية عن فشله لأنه لا يملك الخبرة التي يتعامل بها مع أثر منهار، ويكتفي فقط بالتعامل التجميلي مع بعض الآثار القائمة بالفعل، والآن سلمت الآثار للمجلس فما الفارق بين ما كانت عليه وما هو موجود الآن؟ بشكل عام لن نجد فرقا كبيرا.

المشكلة ليست في نقص الخبرة - يضيف د.البنا - المشكلة في انعدام الضمير، فلجنة حفظ الآثار العربية التي لم تكن تملك شيئا، وكانت تضم مجموعة من الهواة تركت العديد من أعمال التوثيق تعتبر الآن من أهم المراجع التوثيقية لتلك المنطقة، وما رممته اللجنة تعد نماذج تدرس في الحفاظ علي الطبيعة التاريخية والمعمارية للأثر، لكن وعلي الرغم من زيادة الموارد الآن فان العمل الحكومي المنظم لم يستطع أن يرتقي لما فعلته لجنة حفظ الآثار، الهواة الذين اعتمدوا علي التبرعات(!).
الغوري نموذجا

طلبت من د.عبد الفتاح أن نتحدث عن نماذج محددة، فقال: سأتحدث عن نموذج واحد يتجسد فيه كل ما أريد قوله فيما يخص هذا المشروع، وهو مجموعة السلطان الغوري وتشتمل المجموعة علي المسجد والضريح و الخانقاه و السبيل والكتاب، وقبل أن أتعرض للمشاكل التي حدثت في السبيل والتي أضرت جانبا كبيرا من المجموعة يجب أن نعرف أنه منذ أن ظهرت القاهرة الفاطمية والحياة لم تنقطع في شارع المعز لدين الله، وإذا كنا نقول في الآثار تعبير تلال أثرية بمعني أن هناك دلائل علي وجود حياة في مكان ما فإن شارع المعز يمكن أن نعتبره تاريخ حي فمنذ دخول جوهر الصقلي وظهرت القاهرة والحياة قائمة كما هي في هذا المكان، وبالطبع كانت هناك متطلبات كثيرة للحياة اليومية ولخدمة لناس ولابد من توفير المياه في المنطقة كلها وهناك العديد من الأسبلة لتغطية حاجة البشر، السبيل يأخذ المياه كل سنه من الفيضان، خلال الشهور الثلاث التي يفيض فيها النهر ويملأ بئر السبيل بالكامل، وهناك مواصفات خاصة لتلك المياه أهمها أن تكون من أوساط النهر وليس من علي الشاطئ لضمان النظافة والطهارة، ولأنه سيتم تخزين المياه لمدة عام كامل تنقي وترشح ويوضع عليها ماء الورد، ويعتبر سبيل الغوري من أهم الأسبلة الموجودة في القاهرة لأنه يقع في منطقة بالغة الحساسية ففي هذا المكان كانت توجد عدد من الأسواق منها سوق الشرابشيين المختص بصناعة الطرابيش وأسواق المنسوجات، وحتي الآن لاتزال منطقة الغورية سوقا للملابس والمنسوجات، والآن سنجد أن أرضية السبيل ظهرت بها بقع سوداء نتيجة رشح المياه، وربما يعتقد البعض أن هذا طبيعي نتيجة لوجود البئر الممتد علي مساحة السبيل والخانقاه بالكامل، وبعمق 13 مترا، لكن البئر خال الآن تماما، وهذا دليل علي أن المياه الجوفية تم حجبها جبر والخطورة هنا أن الوضع لن يستمر كثيرا بهذا الشكل.
وفي المكان نفسه سنجد أن رخام الأرضية غير مستو رغم أن مشروع الترميم تضمن رفع كامل للأرضيات لكن يبدو أنهم اكتفوا برفعها فقط ووضعوها كما هي!. وكان يجب أن يكون هناك نزع علمي يسبقه توثيق دقيق قبل عملية النزع والتثبيت، وهذا هو الفرق بين المرمم الفنان والعامل أو المبيض، وفي المشروع نفسه - وأيضا في غيره من مشروعات القاهرة التاريخية - رممت كتابات وزخارف الحوائط بمادة رخيصة بدأ بعضها في السقوط من الآن.
أما أخطر ما يوجد في هذا المشروع - وأيضا كما قلنا في غيره - هو استخدام مادة البنتونيت أو الطفلة المطحونة في حقن الحوائط وتثبيت الإضافات وهذه المادة هي السبب في معظم مشاكل الآثار في مصر في الأقصر وسقارة وغيرها، ومن ضمن خصائص هذه المادة أنها يمكن أن يتضاعف حجمها 1500 % حسب كمية المياه التي تتعرض لها، وتخيل ما يمكن أن يحدث مع وجود المياه الجوفية في المنطقة، أبسط ما يمكن أن يحدث أن تنتفخ الحوائط وتسقط واجهاتها ويمكن أن تسقط بالكامل وهو ما حدث في الكنيسة المعلقة.

وفي هذا الموضوع لا يمكن أن نلتمس العذر للمكاتب الاستشارية التي اقترحت مثل هذه المواد، لأني متأكد من أن هذه المكاتب تعرف خطورة هذه المواد، لكن ومن خلال خبرتي في هذا الأمر أستطيع أن أقول أن الاستعانة بمثل هذه المكاتب لم يتعد فكرة استكمال المستندات، حتي تكون أوراقهم كاملة عند حدوث أي كارثة في المنطقة ويقولوا إحنا عملنا اللي علينا وكل ما كان مطلوبا من المكاتب الاستشارية تقديم شوية حبر علي ورق وينسي هذا الورق ويتعامل المقاول مع المبني مباشرة. وإذا كانوا يريدون تحقيق شئ فعلي في هذا المشروع فلماذا لا يعيدون بناء قبة ضريح الغوري التي انهارت ثلاث مرات من قبل؟! فان كانت انهارت لقلة الخبرات العلمية الموجودة ونتيجة لأخطاء هندسية في وضع المبني نفسه، فان الخبرات الموجودة الآن يمكنها أن تعالج الموقف.

مافيا

في نهاية الجولة قال د.البنا: لا أريد أن أكون مجرد منتقد للوضع القائم، لأن الأمر أكبر من ذلك فأنا شخصيا لا أريد أن أفصل نفسي عما حدث، فكلنا كمتخصصين في الآثار والترميم يقع علينا جزء من الخطأ في كل ما حدث ويحدث..لسنا منفصلين عن الفساد الموجود في المجتمع، ولا عن الزيف والرياء والنفاق، ولاعن سيطرة المزيفين وأدعياء التخصص علي الساحة، وهؤلاء هم من قبلوا أن يكون طلاب قسم ترميم الآثار 200 طالب حتي يبيعوا مذكراتهم ولا يهم أن يتعلم أحد، لكنهم كانوا الأقوي لذلك وقعت الآثار الإسلامية في هذه المنطقة ضحية المافيا التي لا يسألها أحد عما تفعل، يسأل البنا:فماذا يحدث لو خرج علينا من يقول أنه اخترع دواء لمرض ما؟، ويجيب: سنجد أن وزارة الصحة تحقق وتدقق وتخرج لنا بنتيجة محددة إما أن نستخدم هذا الدواء أو لا، أما في الآثار فلا أحد يفعل ذلك، هناك قلة متحكمة تفعل ما تريد. ورغم ذلك كله يقول د.البنا:يجب أن أوضح أنه إذا تصور أي احد أن ما يوجد علي ارض الواقع الآن هو حدود مستوانا الطبيعي في الترميم فهو خاطئ وواهم لأن الحقيقة أننا نملك الكوادر الحقيقة القادرة علي صيانة وحفظ الآثار بشكل علمي دقيق لكن للأسف لا يستعين بهم أحد لأنهم خارج حسباتهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مبنى مجلس شورى النواب ... قراءة فنية في سماته الإنشائية